فصل: رأي الجاحظ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء على القرآن الكريم .. بلاغته وإعجازه



.الجاحظ ووجوه الإعجاز:

أما عن رأيه في وجوه الإعجاز التي كان بها القرآن معجزا، فهو الرأي الذي ذهب إليه (الباقلاني) من بعده، و(الجرجاني) كذلك… وهو (النظم)، الذي انفرد به القرآن، في صياغة أساليبه، صياغة تنتظم بها المعاني انتظام الروح في الجسد.
والجاحظ كما نعرف، إمام من أئمة البلاغة، وعلم مفرد في أساليب البيان، وذواقة لم تعرف العربية مثيلا له في التعرف على طعوم الكلام، واختلاف مذاقاته! وما تعرف اللغة العربية أديبا طاوعه قلمه فتحرك في كل اتجاه، وجال في كل حلبة، ونازل في كل ميدان، مثل هذا القلم الذي اشتملت عليه يد الجاحظ.
وإذا كان رأي الجاحظ، في وجه الإعجاز في القرآن، هو ذلك النظم الذي انفرد به القرآن في تصوير معانيه وإخراجها على تلك الصورة العجيبة من النظم، فإن ذلك لم يكن رأيا صريحا للجاحظ، وإنما كان عن طريق الاستدلال، والاستنتاج، لمقولاته التي حملناها هذه المحاميل، وفهمناها على هذا الوجه من الفهم، وإلا فإن الجاحظ لم يقل قولا صريحا مواجها، في الجهة أو الجهات التي جاء منها الإعجاز في القرآن!!
كان الجاحظ ممن يحفلون بالصياغة اللفظة، وممن يجعلون لصفاء العبارة ونضارتها شأنا في البلاغة، وتمكين المعنى من أن يعرض أروع عرض، وأبرعه، وأكمله.
وكانت الظاهرة الغالبة في تلك الفترة المعاصرة للجاحظ، هي الاحتفال بالمعنى، وكدّ الذهن له، والجري وراءه… إذ كانت آثار العقل اليوناني في الفلسفة، والعقل الهندي والفارسي في الحكمة، وضرب الأمثال، قد أخذت تنتقل إلى اللغة العربية، وتؤثر في النفس هذا التأثير الذي أقام المذاهب الكلامية والفلسفية عند كثير من الجماعات والأفراد… وكان من ذلك أن جرى الناس وراء المعاني يلتقطونها في أي محمل من محامل اللفظ، وعلى أية صورة من صوره… حتى لقد كاد ذلك يذهب بكثير منهم إلى الخروج على الأساليب العربية والذوق العربي.
لهذا وقف الجاحظ في وجه هذا التيار، وتصدى له، ودفع به إلى الوراء بعيدا… فانحسر شيئا فشيئا، وجعل أولئك الذين كانوا قد ركبوا هذا المركب لاصطياد المعاني، يعودون رويدا إلى الساحل، حيث يأخذون من المعاني ما تنال أيديهم، وما تبلغ أفكارهم.

.رأي الجاحظ:

والرأي الذي دعا إليه الجاحظ، هو أن البلاغة نظم وصياغة… فمن أخطأه حسن النظم، وحبكة الصياغة، فقد أخطأت كلامه عناصر الحياة، وجمدت فيه عروق البلاغة والبيان… وذلك أن المعنى الذي يخرج في صورة من النظم المضطرب ومن الصياغة المختلطة، هو معنى شأنه ذميم.
ويشهد عبد القاهر الجرجاني آثار هذه المعركة التي كانت دائرة بين اللفظ والمعنى، ويراها في مخلفات الجاحظ الذي كان ينتصر للفظ، من جهة، وفي مخلفات من كانوا يقفون ضده… في الجهة الأخرى.
ويقف (عبد القاهر) إلى جانب رأي الجاحظ، ويقفو أثره، ويتخذ من هذا الرأي حجته على وجه الإعجاز في القرآن.
ولا تحسبن أن (الجاحظ) يهون من شأن المعنى، أو يغمض من قدره… وكيف وهو رجل راجح العقل... وفير العلم والحكمة والأدب؟
فالجاحظ لم ينتصر للفظ، ولم يقف إلى جانب الأسلوب، إلا لمواجهة هذا الخطر الداهم على اللغة، والذي أشرنا إليه آنفا، وإلا فإنه حفي بالمعنى مؤثر له، حريص عليه ما دام لم يجر على الأسلوب، ولم يفسد كيانه، ولم يشوه بنيانه.
وللجاحظ في هذا المقام عبارة مشهورة يقول فيها:
والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك.
وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير.
وأنت ترى أن (الجاحظ) ليس له هنا حديث عن الإعجاز في القرآن، وإنما هو يتحدث عن صفة الكلام البليغ، وعن مأتى البلاغة فيه، ومجال التفاضل بين الكلام والكلام.
وإنه بهذا الميزان الذي يوزن به الكلام، وتعرف به منازله، يمكن أن يعرف فضل القرآن على غيره من الكلام، ويمكن أن يستدل على وجه الإعجاز فيه.
وهذا ما كان من (عبد القاهر) في كتابيه: (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)... حيث أقام مذهبه في الإعجاز على هذا الميزان، وهو (النظم)... كما سنرى ذلك في موضعه من هذا البحث.
هذا (والجاحظ) إذ يرى الإعجاز في (النظم) لا يرى النظم نظما إلا إذا كان على شيء من السعة والامتداد، بحيث يحمل معنى مؤلفا من حقائق مترابطة، يسند بعضها بعضا، فتتشكل منها صورة سوية.
أما النظم الذي يقوم على جملة أو جملتين، أو كلمة أو كلمتين، فلا يدخل في هذا الباب، ولا يعد نظما ينكشف به معدن الكلام وتبين روعته.
يقول الجاحظ في هذا:
ولأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل منهم أي من خطبائهم و بلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها.
ثم يقول:
وليس ذلك -أي الإعجاز- في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين، ألا ترى أن الناس قد يتهيأ في طباعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: (الحمد لله) و(على الله توكلنا)… وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع.
ولو أراد أَنطَقُ الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه، ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع (قحطان) و (معد بن عدنان).
فالنظم على صورة مخصوصة، وفي امتداد رحب هو المعرض الذي تتجلى فيه روعة القرآن وتخايل ملامح إعجازه.
وعلى هذا فالجاحظ هو إمام هذا المذهب في إعجاز القرآن، وعمدة الرأي فيه… ما أن كشف عنه في حديثه عن الأدب، وبيان معادنه حتى كان مذهبا غالبا من مذاهب الرأي في الإعجاز، وحتى دفع إليه العلماء دفعا، إذ جعلوا قوله هذا في الفصاحة والبيان، هو مجال النظر في الإعجاز، لا يكادون يتجاوزونه، ولا ينظرون إلى شيء وراءه.

.الجاحظ…والقول بالصرفة:

لا تعجب إذا رأيت الجاحظ يقول بالصرفة في وجه الإعجاز في القرآن.. فالجاحظ كما نعلم (معتزلي)… وجه من وجوه المعتزلة ورأس من رءوسهم، والنظام وهو من شيوخ المعتزلة كان أول من جاهر بهذا الرأي وفتح للناس باب الكلام فيه.
ولا يذهبن بك الرأي إلى أن تحسب الجاحظ متابعا أو مقلدا لإمام مذهبه (النظام) في هذا الرأي… فالجاحظ وإن أخذ بقول (النظام)... فليس ذلك عن تقليد ومتابعة، وإنما عن نظر وموازنة ومراجعة... ثم اقتناع.
ومن ثم كان رأي الجاحظ في القول بالصرفة هو الذي جعل لرأي (النظام) بعد هذا مكانا بين الآراء التي دارت حول إعجاز القرآن، ولولا هذا لما التفت الناس إلى رأي النظام هذا الالتفات، ولما عاش هذا الرأي في الناس، ينقضونه حينا، ويقبلونه أحيانا… وأمر آخر، وهو أن الجاحظ إنما قال بالصرفة بعد أن أعياه الوقوع على الضوابط الدقيقة التي يضبط بها وجه الإعجاز في القرآن، ويكشف عن أسرار هذا الإعجاز... فذلك أمر إن أعجز الجاحظ فقد أعجز الإنس والجن جميعا! فلو أن الإعجاز قد انكشف -وهيهات- لعرفه الناس، ومن ثم لم يعد بعيدا عن متناول أيديهم… وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن… والله سبحانه يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
إن سر الإعجاز مضمر في كلمات القرآن، كلمة كلمة، وآية آية، إنه أمر من أمر الله…كالروح ترى آثارها، وتشاهد أفعالها، دون أن ينكشف للناس شيء منها.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
والقرآن (روح) تتجلى آثاره في هذه الكلمات المنظومة في آياته…
ولعل في قوله تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}.
لعل في هذا ما يعين على الفهم الذي فهمناه من أن القرآن (روح) من روح الحق جل وعلا... ونقول: لا تعجب إذا عجز الجاحظ عن الكشف عن هذا السر المضمر، أو هذا الروح الساري في القرآن فلم يعرف وجه الإعجاز فألجأه هذا العجز إلى القول بالصرفة... فالجاحظ أستاذ في نقد الكلام، فلا عجب أن عرف قدر القرآن، ولزم حده معه.